قصة
الحب في زاوية معتمة
(( ملاحظة : كانت هذه القصة شديدة المأساوية .. فقمت بتغيرها بعد قرابة السنة من كتابتها .. مع احتفاظي بالأصل ))
فراس خورشيد
تتحرك العواطف دون سابق إنذار ، فيهيم الوجدان لأسباب لا يعرفها الإنسان ، ولكنها
مرسومة في علم الرحمن ، لتوصل لنا مثلاً وعبرة وحكمة ، هكذا قالت أمهم وهي تروي
الحكاية.
لم تكن حداثة السن حاجزاً ولم تكن سباباً
لتخطي الحواجز ، فقد رأى الوسيم "وسيم" جارته "جميلة" التي
تصغره بسنة واحدة ، طفلة بعيني طفل ، تدخل وتخرج مع أهلها، وبالكاد تلعب مع الأطفال في باحة دارهم ، أو في دار أحد
الجيران أثناء تبادل زيارات النساء، ففي مجتمعهم شديد التحفظ ليس لها أن تخرج للعب
في الشوارع والأزقة، ومع حرمانهما من الاختلاط واللعب سوياً في سنٍ مبكرة،
استمرت بينهما الابتسامات البريئة التي تجمع الأطفال إلى سن المراهقة ، وراح مع
الأيام كل واحد منهما يبحث عن ابتسامة صاحبه ، حتى شعرا بالحاجة إليها ، وآه إن
رأى أحدهما صاحبه دون ابتسامة ، وإن كان ذلك بسبب عدم التفاته لنظرات الآخر،
فينقلب يومه كدراً ، أما إذا رآها أو رأته والعبوس يجمد معالم الوجه ، فهو يوم
الحزن والغم والكدر ، ولا يفرج عنهما إلا تلك الابتسامات المتلألئة التي تملئ قلبيهما
سروراً.
وفي أول يوم دراسي من كل سنة ، يقف "وسيم"
عند الباب منذ طلوع الشمس ، حتى يراها وهي خارجة إلى بداية سنةٍ دراسيةٍ جديدة ، ولم تكن هي لتغفل عن هذه المناسبة فقد كانت
تحاول أن تظهر بغاية أناقتها وهندامها حتى يرى منها ما يسر فؤاده ، وأما أثناء أيام
السنة الأخرى كان "وسيم" يجلس مع صحبه في الشارع الجانبي بجوار بيتها
حيث تغطي شبحها ستائر حجرتها ، مختاراً الزاوية المناسبة ليستطيع استراق لمحات دون
أن يشعر به أيٌ من رفاقه ، وكانت بدورها تقف لتتلصص من شبكها لساعات تنظر إليه ،
ويطير فؤادها إذا نظر إليها ورسم ابتسامته التي لا تفارق مخيلتها.
وأطول حوار جرى بينهما كان أثناء خروجها في
إحدى الليالي وهي مقطبة الجبين مشيرة له بإصبع كأنها تمسك سيجارة ، و أشارت بإصبع
"لا" دون أن يلمحها احد من أهلها اللذين ترافقهم.
فقد كان "وسيم" في عصر ذاك اليوم
ممسكاً بيده سيجارة ينفث دخانها مجارياً أصحابه بدفعٍ من فضول المراهقة، و في
اليوم التالي انتظر على وجلٍ أن يلمح عينيها بجانب الستائر وبيده سيجارة ، و حين
شعر بتلصصها ، كسر السيجارة ورماها، ففهمت الرد وطارت له فرحاً، فأهدته صورة وردةٍ
علقتها على زجاج شباكها .
ولم يجر حوار أطول من هذا بينهما طوال تلك السنوات
، فقد كان كل ما يعرفه عنها نظرات عينيها وابتسامة شفيتها ، وما يسمعه من أخواته
دون أن يُلمّح لهن باشتياقه لمعرفة المزيد من أخبارها ، وهي أيضاً لم تكن تعرف عنه
إلا ما تسمعه من أخواته وأخيها ، فأخيها الذي يصغرها كان ينقل بعض أخبار الشارع
وما يجري فيه ، فكانت تستحثه الحديث بحجة خوفها عليه ونصحه، وقلبها معلقٌ بأي كلمة
عن "وسيم" وما فعله وما جرى ويجري له .
استمر الوضع والرسائل الصامتة الودودة إلى أن
انتسب "وسيم" للجامعة، وهي مازالت طالبة في المرحلة الثانوية، فانشغل
وقته بعالمه الجديد، وأحرقها الشوق والغيرة عليه مما سيراه من فتيات الجامعة، فهذه
أول مرة تبدأ سنتها الدراسية دون أن تراه، فبدت سنتها كئيبة، ولم يهدئ لها بال إلى
أن رأته في صبيحة احد الأيام يجلس في السيارة قبل وقت خروجه المعتاد منتظراً سطوع
ابتسامة محياها على يومه، فهذا هو الوقت الوحيد الذي يستطيع رؤيتها فيه بعد أن كبر
سنه وانشغل وقته وتفرقت جلسات الشوارع التي يستطيعان خلالها تبادل رسائل نظرات الأشواق.
كادت السنة الدراسية تنتهي ولم يغيرن فتيات
الجامعة شيئاً من مشاعر "وسيم" اتجاه "جميلة" ، بل زاد شوقه
لها ولابتسامتها البريئة ونظراتها الساحرة ، تشده حرارة جسد أي فتاة تمر قربه إلى
قرب "جميلة" التي تتملك روحه وعقله ، فقرر أن يفاتح والدته بمرامه وهذا
ما فعله ، وبعد إلحاح ورفض استمر لأيام من والديه لأسباب مختلفة كان أبرزها العمر
وصغر السن وقلة التجارب والدراسة، وما يسببه الحب من تعطيل لسير الحياة ولكنه لم
ينثني ، وخلال الأيام التالية تشتت أعصابه وتفرقت حواسه ، ولم يكن ليُطيِّبَ خاطره
إلا تلك الابتسامة الحانية البريئة التي تبعث بعروقه الأمل.
وبعد أن رأى والد "وسيم" تغير حال
ابنه وشدة تعلق قلبه بتلك الفتاة ، شاور زوجته واتفاقا أن تذهب لبيت الجيران خاطبة.
فذهبت "أم وسيم" يوم الأربعاء كما
وعدته، فدخلت برفقة ابنتيها على جارتها التي رحبت بها أيما ترحيب ، واستقبلتها
بأحضانها والسؤال عن أحوالها مع العتاب على قلة التواصل وتباعد التزاور ، فتبادلتا
الأحاديث الحميمة ، وأثناء دخول ابنتها "جميلة" حاملة طبقها الحاوي
لضيافتها قالت "أم وسيم" لأم جميلة : إني أتيتك بطلب .
فتبسمت "أم جميلة" قائلة : تأمرين
أيتها الجارة الحبيبة ، فعيناي عليك ليست بكثيرة.
وضعت "أم وسيم" يدها على كأس عصير
الذي قدمته لها "جميلة" وهي تقول : أريد جميلة ! .
فهمت "جميلة" التي لم تكن تتوقع
هذا الطلب ما قصدته "أم وسيم" ، فخفق قلبها وتراجعت بعد أن أضاءت
ابتسامتها وجرت إلى حجرتها مسقطة الطبق وما عليه ، فضحكن الحاضرات منها ، ثم ما
لبثت أن تبدلت ملامح أمها قائلة :
"ونعم الناس والجيران أنتم، ونعم الابن
هو ابنكم ، ولكنك تعلمين . "
" ماذا ؟ "
" اختلاف المذاهب؛"
فأجابتها
أم وسيم :
"يا أم جميلة ليسا أول اثنان يتزوجان
وهما مختلفا المذهب، فكم من معارفنا وأهلنا متزوجون ممن يخالفهم بالمذهب وعاشوا
ومازالوا يعيشون كأفضل ما يكون ، و أعلم أن ابني يريد ابنتك وهي كما يبدو تريده."
فقالت أم جميلة :
" كان هذا زمان يا جارتي ، أما الآن
فالخلافات المذهبية كثيرة ، والحياة معها صعبة ، وكم من الأحبة حاربوا الدنيا
وتزوجوا ثم ما يلبثون عند إنجاب الأطفال يختلفون لأتفه الأسباب وينقلب شوقهم
للزواج شوقاً للطلاق، ولا أريد لابنتي أو لأحفادي هذه المشاكل ، و لنغلق هذا الباب
، فلا أنا ولا زوجي سنرضى بهذه الزيجة. "
حاولت "أم وسيم" تطويعها وإقناعها
ولكن "أم جميلة" أقفلت باب الكلام بإحكام ، حتى لم يعد هناك مجالٌ لكلمة
تغير من واقع رأيها شيئاَ ، فرجعت "أم وسيم" وابنتيها إلى بيتها وهي تجر
خجلها وضيقها ، وكان وسيم في استقبالهم ولكنه لم ينتظر سماع الجواب فقد عرف الجواب
من الوجوه ، فذهب إلى حجرته ودموعه تسبقه بعد أن سبقها شحوبه ، فتبعته أمه تشرح له
ما جرى.
وأما "جميلة" فأخذت تسبح في
أحلامها بين الغيوم ترسم المستقبل بقلم الأمل على ضوء القمر ، إلى أن بعثت أمها من
يناديها ، فأتت تقدم التحية لأمها وأبيها وحمرة الخجل تعلو وجهها، ولكنها لاحظت
الغضب ، فاختفت ابتسامتها الحيية ، وعلت صفرة الخوف وجهها عندما غادرته قطرات
الخجل ، وبعد تحقيق مطول معها ، عرفا أن حبها عذري شريف لم يتجاوز إحساس قلبها
العميق وابتسامتها ، ولكن حزم والدها كان نهائياً قاطعاً بأن فكرة هذا الزواج غير
مقبولة ودون تحققها موتها.
جرّت رجليها مرقلة إلى سريرها ، و بلت دموعها
وسادتها ، إلى أن غابت عن الدنيا ، فلم تدر أكان نوماً أم إغماءً.
مرت عليها ثلاث ليال ثقيلة، إلى أن أشرقت شمس
السبت التي لم يدريا ما تخبئ لهما ، فانتظر "وسيم" خروج حلم عشقه منذ
الفجر، أما هي فبالكاد استطاعت مع جلدات صراخ أبويها أن ترتدي ثيابها وتخرج شاحبة
الوجه ممسوحة الملامح، وقد ضاعت في طيات حزنها النضارة ، وما أن أحس "وسيم"
بظلها يتقدم ، حتى تجرأ لأول مرة في حياته وتقدم خطواتٍ ، وما أن رأى معالمها ،
حتى ارتعش قلبه ، وعلت أنفاسه ودقات قلبه ، وحين رفعت عيناها ورأت شحوب حاله ، جرت
دموعها وسقطت مغشية ، فصرخ والدها "بوسيم" ، وأتى أبوه يجره إلى البيت ،
وشاع خبرهما عند الجيران والأقارب ، فقدر الجميع هذا الحب إلا أبويهما .
مرت أيام هذا الأسبوع كأسوأ ما يكون على
الحبيبين وأسرتيهما ، فلم يخرجا من البيت ، بل لم يكادا يخرجان من حجرتيهما أو أن
يتذوقا طعم الزاد ، وإن كان ما مر على
جميلة أصعب ، فقد كانت الفتاة الضعيفة التي لا تمتلك حيلة وتخاف حتى البكاء على
قلبها الذي تفقد .
وحين شاهد والد "وسيم" حال ابنه وما
أصابه من هزال وإهمال لمستقبله، تأكد من قوة حبه وهيامه "بجميلة" ، وتأكد
ان وقوفه ضده وعناده سيضره دون أن يفيده ، فاتخذ قراره واتجه إلى أكابر الجيران
يشرح لهم الحكاية ويطلب منهم العون والمشورة ، فعقدوا العزم وذهبوا يوم الخميس التالي
مجموعة صغيرة مكونة من وسيم ووالده واثنان من وجهاء الجيران إلى والد جميلة.
علمت جميلة بخبر قدومهم فدبت بملامحها الحياة ، ولان قلب أمها ورقت لحب ابنتها ، فسلمت لما سوف ينجم
عنه هذا الاجتماع الذي لابد أن يؤثر على زوجها ، ويغير من رأيه لتطلق بعد قليل
"زغرودة" ، ولكن شفاعة الرجلين لم تغير من رأي "والد جميلة"
شيئاً، بل زاد إصرارا وعناداً واعتبر أن تصرف والد وسيم ضغطٌاً غير مبرر بل
وابتزاز له ولمعتقداته، وقام بطرد الضيوف الأربعة ، وذهب لحجرة ابنته ليقول لها وهو
ينفث بقايا غضبه : " موتك دون هذا الزواج " .
دارت بجميلة الدنيا ، فلم تدري هل تبقي فرحها
أم تدخل في حزنٍ جديد ، فخلطت ضحكة بعويل وابتسامة ببكاء ، وألم بشوق بخوف ، فرعب
بحب ببغض ، لم تعد قادرة على الاتزان ، لم تشعر بأمها وهي تحتضنها ، تفطر قلب الأم
وهي ترى ابنتها تحاول عاجزة ابتلاع غصتها ، سندتها إلى سريرها ، تبعت أمها أباها
تحاول تهدئته حتى يخفف عن ابنته ، جاهدت لشرح شعور ابنتها الذي لم يتفهمه الأب أول
الأمر ، فأقنعته أن يتلاطف مع ابنته ويصبرها ، ويعدها أن يفكر بالموضوع ، والأيام
كفيلة إما أن تنساه "جميلة" أو يغير هو من رأيه ، أو يجدون حلا أقل
ضرراً على ابنتهما .
وأما "وسيم" فقد تماسك بفضل
الجارين اللذان سانداه ، وهدآ من فورة أبيه ضد والد جميلة ، محاولان التخفيف عنهما
بوعد تكرار المحاولة بطريقة أكثر تأثيرا على والدها ، ولكنه رغم ذلك طوى نفسه على
سريره ، يتذكر الصور الجميلة من جميلة ودموع آهاته المكتومة تنساب عبر أجفانه لتغسل
آلامه .
ولم تمضي ساعة من زمان ، حتى سمع سكان الحي صوت
سيارة الإسعاف تمر إلى باب بيت جميلة .
أوقفت أمهم سردها للقصة وهي تقول : "
مللت حكايتها لكم .. فأنتم بالنسبة لي .. أجمل ما في هذه القصة " !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق