الجمعة، 1 أغسطس 2014

الحب في زاوية معتمة ( قصة قصيرة )

قصة
الحب في زاوية معتمة

(( ملاحظة : كانت هذه القصة شديدة المأساوية .. فقمت بتغيرها بعد قرابة السنة من كتابتها .. مع احتفاظي بالأصل ))
فراس خورشيد

تتحرك العواطف دون سابق إنذار ، فيهيم الوجدان لأسباب لا يعرفها الإنسان ، ولكنها مرسومة في علم الرحمن ، لتوصل لنا مثلاً وعبرة وحكمة ، هكذا قالت أمهم وهي تروي الحكاية.
لم تكن حداثة السن حاجزاً ولم تكن سباباً لتخطي الحواجز ، فقد رأى الوسيم "وسيم" جارته "جميلة" التي تصغره بسنة واحدة ، طفلة بعيني طفل ، تدخل وتخرج مع أهلها، وبالكاد تلعب مع الأطفال في باحة دارهم ، أو في دار أحد الجيران أثناء تبادل زيارات النساء، ففي مجتمعهم شديد التحفظ ليس لها أن تخرج للعب في الشوارع والأزقة، ومع حرمانهما من الاختلاط واللعب سوياً في سنٍ مبكرة، استمرت بينهما الابتسامات البريئة التي تجمع الأطفال إلى سن المراهقة ، وراح مع الأيام كل واحد منهما يبحث عن ابتسامة صاحبه ، حتى شعرا بالحاجة إليها ، وآه إن رأى أحدهما صاحبه دون ابتسامة ، وإن كان ذلك بسبب عدم التفاته لنظرات الآخر، فينقلب يومه كدراً ، أما إذا رآها أو رأته والعبوس يجمد معالم الوجه ، فهو يوم الحزن والغم والكدر ، ولا يفرج عنهما إلا تلك الابتسامات المتلألئة التي تملئ قلبيهما سروراً.
وفي أول يوم دراسي من كل سنة ، يقف "وسيم" عند الباب منذ طلوع الشمس ، حتى يراها وهي خارجة إلى بداية سنةٍ دراسيةٍ جديدة ،  ولم تكن هي لتغفل عن هذه المناسبة فقد كانت تحاول أن تظهر بغاية أناقتها وهندامها حتى يرى منها ما يسر فؤاده ، وأما أثناء أيام السنة الأخرى كان "وسيم" يجلس مع صحبه في الشارع الجانبي بجوار بيتها حيث تغطي شبحها ستائر حجرتها ، مختاراً الزاوية المناسبة ليستطيع استراق لمحات دون أن يشعر به أيٌ من رفاقه ، وكانت بدورها تقف لتتلصص من شبكها لساعات تنظر إليه ، ويطير فؤادها إذا نظر إليها ورسم ابتسامته التي لا تفارق مخيلتها.
وأطول حوار جرى بينهما كان أثناء خروجها في إحدى الليالي وهي مقطبة الجبين مشيرة له بإصبع كأنها تمسك سيجارة ، و أشارت بإصبع "لا" دون أن يلمحها احد من أهلها اللذين ترافقهم.
فقد كان "وسيم" في عصر ذاك اليوم ممسكاً بيده سيجارة ينفث دخانها مجارياً أصحابه بدفعٍ من فضول المراهقة، و في اليوم التالي انتظر على وجلٍ أن يلمح عينيها بجانب الستائر وبيده سيجارة ، و حين شعر بتلصصها ، كسر السيجارة ورماها، ففهمت الرد وطارت له فرحاً، فأهدته صورة وردةٍ علقتها على زجاج شباكها .
ولم يجر حوار أطول من هذا بينهما طوال تلك السنوات ، فقد كان كل ما يعرفه عنها نظرات عينيها وابتسامة شفيتها ، وما يسمعه من أخواته دون أن يُلمّح لهن باشتياقه لمعرفة المزيد من أخبارها ، وهي أيضاً لم تكن تعرف عنه إلا ما تسمعه من أخواته وأخيها ، فأخيها الذي يصغرها كان ينقل بعض أخبار الشارع وما يجري فيه ، فكانت تستحثه الحديث بحجة خوفها عليه ونصحه، وقلبها معلقٌ بأي كلمة عن "وسيم" وما فعله وما جرى ويجري له .
استمر الوضع والرسائل الصامتة الودودة إلى أن انتسب "وسيم" للجامعة، وهي مازالت طالبة في المرحلة الثانوية، فانشغل وقته بعالمه الجديد، وأحرقها الشوق والغيرة عليه مما سيراه من فتيات الجامعة، فهذه أول مرة تبدأ سنتها الدراسية دون أن تراه، فبدت سنتها كئيبة، ولم يهدئ لها بال إلى أن رأته في صبيحة احد الأيام يجلس في السيارة قبل وقت خروجه المعتاد منتظراً سطوع ابتسامة محياها على يومه، فهذا هو الوقت الوحيد الذي يستطيع رؤيتها فيه بعد أن كبر سنه وانشغل وقته وتفرقت جلسات الشوارع التي يستطيعان خلالها تبادل رسائل نظرات الأشواق.
كادت السنة الدراسية تنتهي ولم يغيرن فتيات الجامعة شيئاً من مشاعر "وسيم" اتجاه "جميلة" ، بل زاد شوقه لها ولابتسامتها البريئة ونظراتها الساحرة ، تشده حرارة جسد أي فتاة تمر قربه إلى قرب "جميلة" التي تتملك روحه وعقله ، فقرر أن يفاتح والدته بمرامه وهذا ما فعله ، وبعد إلحاح ورفض استمر لأيام من والديه لأسباب مختلفة كان أبرزها العمر وصغر السن وقلة التجارب والدراسة، وما يسببه الحب من تعطيل لسير الحياة ولكنه لم ينثني ، وخلال الأيام التالية تشتت أعصابه وتفرقت حواسه ، ولم يكن ليُطيِّبَ خاطره إلا تلك الابتسامة الحانية البريئة التي تبعث بعروقه الأمل.
وبعد أن رأى والد "وسيم" تغير حال ابنه وشدة تعلق قلبه بتلك الفتاة ، شاور زوجته واتفاقا أن تذهب لبيت الجيران خاطبة.
فذهبت "أم وسيم" يوم الأربعاء كما وعدته، فدخلت برفقة ابنتيها على جارتها التي رحبت بها أيما ترحيب ، واستقبلتها بأحضانها والسؤال عن أحوالها مع العتاب على قلة التواصل وتباعد التزاور ، فتبادلتا الأحاديث الحميمة ، وأثناء دخول ابنتها "جميلة" حاملة طبقها الحاوي لضيافتها قالت "أم وسيم" لأم جميلة : إني أتيتك بطلب .
فتبسمت "أم جميلة" قائلة : تأمرين أيتها الجارة الحبيبة ، فعيناي عليك ليست بكثيرة.
وضعت "أم وسيم" يدها على كأس عصير الذي قدمته لها "جميلة" وهي تقول : أريد جميلة ! .
فهمت "جميلة" التي لم تكن تتوقع هذا الطلب ما قصدته "أم وسيم" ، فخفق قلبها وتراجعت بعد أن أضاءت ابتسامتها وجرت إلى حجرتها مسقطة الطبق وما عليه ، فضحكن الحاضرات منها ، ثم ما لبثت أن تبدلت ملامح أمها قائلة :
"ونعم الناس والجيران أنتم، ونعم الابن هو ابنكم ، ولكنك تعلمين . "       
" ماذا ؟ "
" اختلاف المذاهب؛"
 فأجابتها أم وسيم :
"يا أم جميلة ليسا أول اثنان يتزوجان وهما مختلفا المذهب، فكم من معارفنا وأهلنا متزوجون ممن يخالفهم بالمذهب وعاشوا ومازالوا يعيشون كأفضل ما يكون ، و أعلم أن ابني يريد ابنتك وهي كما يبدو تريده."
فقالت أم جميلة :
" كان هذا زمان يا جارتي ، أما الآن فالخلافات المذهبية كثيرة ، والحياة معها صعبة ، وكم من الأحبة حاربوا الدنيا وتزوجوا ثم ما يلبثون عند إنجاب الأطفال يختلفون لأتفه الأسباب وينقلب شوقهم للزواج شوقاً للطلاق، ولا أريد لابنتي أو لأحفادي هذه المشاكل ، و لنغلق هذا الباب ، فلا أنا ولا زوجي سنرضى بهذه الزيجة. "
حاولت "أم وسيم" تطويعها وإقناعها ولكن "أم جميلة" أقفلت باب الكلام بإحكام ، حتى لم يعد هناك مجالٌ لكلمة تغير من واقع رأيها شيئاَ ، فرجعت "أم وسيم" وابنتيها إلى بيتها وهي تجر خجلها وضيقها ، وكان وسيم في استقبالهم ولكنه لم ينتظر سماع الجواب فقد عرف الجواب من الوجوه ، فذهب إلى حجرته ودموعه تسبقه بعد أن سبقها شحوبه ، فتبعته أمه تشرح له ما جرى.
وأما "جميلة" فأخذت تسبح في أحلامها بين الغيوم ترسم المستقبل بقلم الأمل على ضوء القمر ، إلى أن بعثت أمها من يناديها ، فأتت تقدم التحية لأمها وأبيها وحمرة الخجل تعلو وجهها، ولكنها لاحظت الغضب ، فاختفت ابتسامتها الحيية ، وعلت صفرة الخوف وجهها عندما غادرته قطرات الخجل ، وبعد تحقيق مطول معها ، عرفا أن حبها عذري شريف لم يتجاوز إحساس قلبها العميق وابتسامتها ، ولكن حزم والدها كان نهائياً قاطعاً بأن فكرة هذا الزواج غير مقبولة ودون تحققها موتها.
جرّت رجليها مرقلة إلى سريرها ، و بلت دموعها وسادتها ، إلى أن غابت عن الدنيا ، فلم تدر أكان نوماً أم إغماءً.
مرت عليها ثلاث ليال ثقيلة، إلى أن أشرقت شمس السبت التي لم يدريا ما تخبئ لهما ، فانتظر "وسيم" خروج حلم عشقه منذ الفجر، أما هي فبالكاد استطاعت مع جلدات صراخ أبويها أن ترتدي ثيابها وتخرج شاحبة الوجه ممسوحة الملامح، وقد ضاعت في طيات حزنها النضارة ، وما أن أحس "وسيم" بظلها يتقدم ، حتى تجرأ لأول مرة في حياته وتقدم خطواتٍ ، وما أن رأى معالمها ، حتى ارتعش قلبه ، وعلت أنفاسه ودقات قلبه ، وحين رفعت عيناها ورأت شحوب حاله ، جرت دموعها وسقطت مغشية ، فصرخ والدها "بوسيم" ، وأتى أبوه يجره إلى البيت ، وشاع خبرهما عند الجيران والأقارب ، فقدر الجميع هذا الحب إلا أبويهما .
مرت أيام هذا الأسبوع كأسوأ ما يكون على الحبيبين وأسرتيهما ، فلم يخرجا من البيت ، بل لم يكادا يخرجان من حجرتيهما أو أن يتذوقا طعم الزاد ، وإن كان ما مر على جميلة أصعب ، فقد كانت الفتاة الضعيفة التي لا تمتلك حيلة وتخاف حتى البكاء على قلبها الذي تفقد .
وحين شاهد والد "وسيم" حال ابنه وما أصابه من هزال وإهمال لمستقبله، تأكد من قوة حبه وهيامه "بجميلة" ، وتأكد ان وقوفه ضده وعناده سيضره دون أن يفيده ، فاتخذ قراره واتجه إلى أكابر الجيران يشرح لهم الحكاية ويطلب منهم العون والمشورة ، فعقدوا العزم وذهبوا يوم الخميس التالي مجموعة صغيرة مكونة من وسيم ووالده واثنان من وجهاء الجيران إلى والد جميلة.
علمت جميلة بخبر قدومهم فدبت بملامحها الحياة ، ولان قلب أمها ورقت لحب ابنتها ، فسلمت لما سوف ينجم عنه هذا الاجتماع الذي لابد أن يؤثر على زوجها ، ويغير من رأيه لتطلق بعد قليل "زغرودة" ، ولكن شفاعة الرجلين لم تغير من رأي "والد جميلة" شيئاً، بل زاد إصرارا وعناداً واعتبر أن تصرف والد وسيم ضغطٌاً غير مبرر بل وابتزاز له ولمعتقداته، وقام بطرد الضيوف الأربعة ، وذهب لحجرة ابنته ليقول لها وهو ينفث بقايا غضبه : " موتك دون هذا الزواج " .
دارت بجميلة الدنيا ، فلم تدري هل تبقي فرحها أم تدخل في حزنٍ جديد ، فخلطت ضحكة بعويل وابتسامة ببكاء ، وألم بشوق بخوف ، فرعب بحب ببغض ، لم تعد قادرة على الاتزان ، لم تشعر بأمها وهي تحتضنها ، تفطر قلب الأم وهي ترى ابنتها تحاول عاجزة ابتلاع غصتها ، سندتها إلى سريرها ، تبعت أمها أباها تحاول تهدئته حتى يخفف عن ابنته ، جاهدت لشرح شعور ابنتها الذي لم يتفهمه الأب أول الأمر ، فأقنعته أن يتلاطف مع ابنته ويصبرها ، ويعدها أن يفكر بالموضوع ، والأيام كفيلة إما أن تنساه "جميلة" أو يغير هو من رأيه ، أو يجدون حلا أقل ضرراً على ابنتهما .
وأما "وسيم" فقد تماسك بفضل الجارين اللذان سانداه ، وهدآ من فورة أبيه ضد والد جميلة ، محاولان التخفيف عنهما بوعد تكرار المحاولة بطريقة أكثر تأثيرا على والدها ، ولكنه رغم ذلك طوى نفسه على سريره ، يتذكر الصور الجميلة من جميلة ودموع آهاته المكتومة تنساب عبر أجفانه لتغسل آلامه .
ولم تمضي ساعة من زمان ، حتى سمع سكان الحي صوت سيارة الإسعاف تمر إلى باب بيت جميلة .

أوقفت أمهم سردها للقصة وهي تقول : " مللت حكايتها لكم .. فأنتم بالنسبة لي .. أجمل ما في هذه القصة " !

مأساة بلا عنوان

مأساة بلا عنوان
شُعورُه بدموعها على كتفه ، جعله يفقد تجلده ليذرف دموعاً بلت وجهها المختبئ بين ذقنه وكتفه ، فشعرت بالألم لدموع حبيبها ، رفعت رأسها حابسةً دموعها في مقلتيها ، لتقول له :
"الله معنا ، انتظر عزيزي إن شاء الله يأتي الطبيب بما يفرحنا "
ففتح عينيه المغمضتين ليفلتهما جائلتين في أرجاء حجرة الطبيب ، قائلاً :
"قلبي يتفطر ، فمنذ أن وضعتي ، ونحن تحاليل ومختبرات وفحوصات ، ومازال ولدي في ذات الخطر"
كفكفت دموعها : " لسنا أول من يأتيهم طفل مشوه ولا آخرهم ، كما أصاب الناس بلاء الله يصيبنا ، ما بك حبيبي كل يوم تصبرني وأنا اليوم أصبرك ؟! "
"لا أدري ما ألم بي ، ولكني أشعر بثقلٍ على صدري يكاد يخنقني "
"أتحتاج إلى علاج ؟ اعرض نفسك على الطبيب "
" لا لا أحتاج ، الأمر فقط نفسي ،  من شدة الضغط ، وما تعرضنا ... " .

يفتح الباب ليدخل الطبيب ومعه رجل ، كان الطبيب واجما والرجل متجهماً ، لم يحتمل قلب الزوجة شكل الطبيب الذي عرفته بابتسامته وتفاؤله هو مكفهر يخبئ الآلام ، فسألته بوجلٍ متقطعة الصوت :
"دكتور دكتور هل جرى لابني شيء؟ "
فأجبها وهو يدقق النظر "لا.. " ، دمعة عينه  " الأمر يخصكما " .
الزوج " أتريد أن تقول إننا ، لا نصلح لبعض ؟ "
الزوجة وهي تبكي في حيرتها " لا .. لا... لا يمكن .. أما يقوله صحيح " ، رمت نفسها على زوجها " لن أتركه .. ولا أريد أطفالاً " ، رفعت رأسها حدقة بعينه وملئ عينها الدموع " أنت لا تريد أطفال؟ صحيح ؟ تريد أن تبقى معي ؟ " وأعادت دس رأيها في صدره .

فنظر الزوج للطبيب والألم والدموع في نبرة صوته المخلوطة بابتسامة كاذبة " زواجنا عن حبنا منذ أولى سنوات درستنا ، أربع سنوات من الحب .. لا أريد أن أفقد هذا الحب وهذه الحبيبة ؟ "

لم يستطيع الطبيب المطرق أن يفتح فمه ولكن دموعه قد رسمت بركة ما يشعر به من ألم على مكتبه ، لم يقطع صوت التنهدات المخنوقة إلا كلام الرجل الذي دخل مع الطبيب :
" لم تفهما المسألة .. " .
فقاطعة الطبيب :
 "حرام .. حرام .. والله حرام ... لا " وانهمرت دموع الطبيب والانكسار بادٍ عليه .
مسك الرجل الطبيب " اهدأ اهدأ "
فسأل الزوج الذي قام إليهم للمساعدة في تهدئة الطبيب "ما الأمر ؟ "
الرجل " أنا سأخبركما " .
ولكن بكاء الطبيب أخر حديثه ، وهو يحوقل ويتنهد ، حتى فاجئهم بكائها و صراخ الزوجة التي لم يعد قلبها يحتمل المزيد من الضغوط ، وهي تلطم وجهها و رأسها :
"أخبروني ماذا يجري ... أريد أن أفهم .. قتلتموني ..أبني أنا زوجي .. أرجوكم " .
اجتمعوا حولها لتهدئتها ، وما إن هدأت قليلا وهي في أحضان زوجها حتى رجع الطبيب إلى مكانه وجلس الرجل مقابلاً للزوجين :
"أعرفكما بنفسي.. أنا محقق المستشفى ... ".
 فنظر إليه الزوج باستغراب و بلاهة "محقق ؟! لماذا ؟ ما هي جرمتنا ؟ "
فأجابه "لم ترتكبا جريمة ولكنها أمور روتينية .. فبعض الأمور تأتي عندي وأنا أرفعها للنيابة لنأخذ الإذن بها "
الزوج وهو ينظر إليها وهي تحتضنه "النيابة؟ "
المحقق "المفترض أن يخبركما الطبيب بما سأقول ، ولكن قربه منكما وعلاقتكم المستمرة لأكثر من شهر منعته من إخباركما ، و أنا لا أدري كيف يجب أن أخبركم "
الزوج وقد تمالك نفسه " ما الأمر أخبرنا حضرت المحقق .. هل تريدني لوحدي ؟ "
المحقق " لا ... يجب أن أحدثكما جميعاً " .

الزوج وهو يحتضن زوجته "تفضل" قالها وهو يترقب حركة شفتي المحقق الذي ما إن لاحظ عينيه حتى أطرق إلى الأرض ، وسكت لدقائق ، ثم قام واستأذنهم للخروج قليلاً ، ولم ينتظر الإذن ، ولا الكلمات المتقطعة من الزوج ، فأغلق الباب خلفه .

التفت الزوج حينها للطبيب قائلاً :
"ألا تفهمني ما الأمر ؟"
وانتظر لحظات ، لم ينبس الطبيب فيها ببنت شفه ، فواصل الزوج كلامه :
"دكتور أصبحت كأخي خلال الأيام الماضية .. ما الأمر ؟ أخبرني .. هل نحن مصابان بمرض ؟ هل هناك أمرٌ خطير ؟"
ولكن الدكتور لم ينطق واكتفى بتكفيف الدموع .
وبعد دقائق من الصمت قال الطبيب :
" عليكما أن تهدءا هو أمر معقد ولكنكما أقوى منه وليس كما تظنان ... " .
نظر إليه الزوج مبتسما و كأنما رأى بصيص أمل " ما هو يا دكتور ؟" .
لم يجبه ولكنه قام من مكانه وقدم الماء للزوجة وهو يقول :
"هدئي من روعك كلها دقائق ويتضح كل شيء" .
ثم رجع الطبيب إلى مكانه ، وخيم الصمت إلى أن فتح الباب ودخل المحقق وأثار الماء على وجهه :
" هل أنتما أهدئ الآن "
أجابا بالإيجاب فأردف بنبرة حازمة جافة توحي بتمالك النفس وتجلدها :
" ما أقوله لكم ، أمر غريب ولا ندري كيف حدث أو كيف ستستقبلانه " .
فقال الزوج : "ما هو ؟ "
لم يتحرك المحقق ولكنه قال بنبرة أكثر حدية :
"لا تقاطعني وأنا أتحدث "
أخذ المحقق أنفاسه وبعد صمت لحظات قال :
" فحص الدي إن أيه أظهر نتيجة غريبة .. وأعيد على نفس العينات وأظهر نفس النتيجة " .

فانتفخت أوداج الزوج وتملك الزوجة الرعب من هذا الكلام ، صرخ الزوج
"ماذا؟"
فأسرع المحقق متداركاً :
"أبنكما ولكن الأمر مختلف.. قلت لكما أهدئا فليس الأمر من الأمور الاعتيادية " .
سكت الجميع قليلاً إلى أن ظهر الهدوء على الزوج وقال :
"تفضل أكمل" .
وبتجلده أكمل المحقق كلامه :
" يجب أن تتمالكا نفسيكما ، أن تفكرا بهدوء بعقل ، أن تواجها الأمر بمنتهى ضبط النفس ، لا تتخذا أي رد فعل الآن ، استقبلا الخبر و فكرا فيه ، ثم قررا ماذا سوف تصنعان " .
فقالت الزوجة بصوتها الضعيف الخافت :
"انك توتر أعصابنا أكثر أخبرنا وخلصنا " .
 فأجابها المحقق :
"نعم أنا أخبركما ولكن هل تستطيعان أن تسكتا بعد سماع الخبر لدقائق "
فقال الزوج :
" أجل "
نظر المحقق للزوجة فقالت :
" أجل أجل " .
فأمسك المحقق الأوراق وقلبها وقال :
" إن النتائج تظهر إنكما أخوين " .

ظهر الاستنكار على وجه الزوج وقام فاندفعت زوجته التي كانت تتكئ بجسدها عليه ، وقال صارخاً باستنكاره واستهزاء : "نعم !" .
فأجابه المحقق بنبرة حازمة :
" اجلس و اهدأ ولا تتحدث"  .
التفت الجميع على الزوجة التي جحظت عيناها من هول الصدمة ، فقام لها الطبيب محاولاً أن يكلمها ، صفعها ، أحضر ماءً وغسل وجهها ، حرك يده أمام وجهه قرب أصبعها بسرعة من عينها وقال :
"لا بأس الآن تستعيد إدراكها "
كل هذا والزوج قد جلس في مكانه لم يحرك ساكناً .

عم صمت المكان صمت مرعب ، وبينما تهدئ أنفاس الطبيب والمحقق ، كانت تغزر دموع الزوجين و تبدأ أنفاسهما بالتسارع ، تحركت يمين[يدها] الزوجة ، ترتفع بارتعاش ، مدتها إليه حيث كان جالساً يسارها ، مدتها وتبعتها بالتفاف جذعها ، تحسست وجهه بأصابعها المترددة بارتعاش ، غزرت دموعها ، تجمدت زندها وحرارة وجهه تسري تعبر أناملها إلى قلبه :
 " كيف ؟ .. أحبك ! ... آه"
غطى البكاء و النهد كلمها ،ولكنها واصلت بكلمات متقطعة مبحوحة متهدجة :
" كيف .. كيف .. أنت شقيقي ؟  توأم .. انفصلنا ؟ من سرق من ؟ لا أستوعب .. ولكني أحبك ..أنت حبيبي .. زوجي .. أو أخي .. أحبك .. أريدك " .
فانفجر الكل بالبكاء ...
أبعد الزوج يدها وهو يعتصر دموعه من عينه وقام ، ليواجه الطبيب وقال بصوت متهدج يحاول تمالكه :
"أنحن توأم ؟ الفرق بيننا أشهر ... أشهر ... أفهمني إن كان عندك ما تقول .." .
ارتفع بكاء الزوج فهب المحقق ليجلسه ، ولكنه أبعد يده :
" اتركني .. يجب أن أفهم ؟ أفهمونا كيف ؟ أنحن أشقاء " .
أنزل الطبيب رأسه ودموعه تقطر ، فقال المحقق :
" اجلس أنا سأجيبك "
فأجلسه ،وهو يقول :
" أتريد ماءً "
أبعد الزوج يد المحقق وأنزل رأسه وهو يقول :
" قل ما عندك فلن يكون أسوء مما أتصور" .
فجلس المحقق وهو يقول
" أنا هنا لأخبركم بالحقيقة كاملة ، لن أخفي شيئاً عنكما ، ولكن تمالكا نفسيكما حتى أستطيع المواصلة "
انقطع الكلام ولم تظهر إلا أصوات التنهدات ، فأكمل كلامه :
" إنكما لستما شقيقين فأنتما أخوين من أب! " .
أطرق لكلماته الزوج ، ولكن الدهشة ظهرت على الزوجة ، ففغرت فاها في وجهه للحظات ثم قالت :
"ماذا، لم أفهم؟ " .
فكرر عليها المحقق :
" أنتما أخوين من أب واحد وأمين " .
فأجابت ببلاهة " "كيف؟ " لم يجبها أحد ، فأعدت "كيف نكون من أبٍ واحد وأمي لم تتزوج غير أبي وأمه لم تتزوج غير أبيه " ضحكت و أكملت بمشهد أسود " أفزعتمانا ... أنتما مخطئين ، ما تقولانه لا يمكن أن يكون" .

أطرق الجميع ، والدموع تتناثر إلا المحقق فقد قال :
" لا هذا التحليل لا يخطئ " .
سكتت للحظات ..ثم صاحت به :
" كيف .. كيف .. لماذا تصرون على تفريقنا .. أنتما لا تفهمان .. أمي أمه لم تتزوج إيٌ منهن إلا زوج واحداً فقط .. أنتم كلاب تريدون أن تنهشا حياتنا تفرقانا .. لماذا ما هي الفائدة التي تجنيها من هذا الفعل المقرف " .
فثار الزوج صائحاً وهو يقوم
"كفى" .
وقف محدقا بها والغضب والدموع والحزن و الألم في وجهه الأحمر ، وبعد لحظات عاضاً على نواجذه ، يفرك أسنانه وبصوته الذي لم ينقطع تهدجه وأنفاسه اللاهثة :
" افهمي .. افهمي .. أحدنا ... نعم أحدنا" .
انفجر بالبكاء بحرقه وأراد الضرب على أي شيءٍ بقبضته ، فأمسكه المحقق حاضناً له بشدة وهو يبكي وبين بكاءه وآهاته يقول :
"أحدانا ..ابن حرام .. ابن حرام .. ابن حرام ..هل فهمتي ..[ نفض المحقق وبصرخة قوية صاحبتها جحوظ في عينيه صاح ] ابن حرام .." .
ثم هد جسده على الأريكة ، والفتاة عاودت وجومها ، بقي الوضع هكذا لدقائق ، إلى أن بدأت الفتاة بالبكاء ولطم وجهها :
"لماذا ... لماذا ... يا ربي ... لماذا يحدث لنا هذا.. " .
التفت على الزوج :
" أتريد تَركِي ؟ " .
عاودت بكاءها ولطمها ، ثم قامت بخطواتٍ فاقدة لتوازنها إلى الطبيب الذي نظر إليها والدموع ملئ عينيه ليسمعها تقول له :
"هل هذا صحيح ؟ أرجوك قل لا .. قل لا .. صحيح لا "
فأجبها بصوت خافت :
"للأسف حقيقة "
وأغمض عينيه ليخفي ألمها المتسرب مع دمعه .
دارت الزوجة و نظرت إلى المحقق ثم إلى زوجها ، تبسمت ببلاهة و أشارت إلى الطبيب :
" يقول حقيقة .. انظروا انك زوجي هذه هي الحقيقة " .
وسقطت مغشية ، فهب الطبيب يتفقدها ، و عاود رش الماء على وجهها ، تركها مغشية ، وقام إلى الهاتف كلم الممرضة وطلب منها حقنة مهدئة .

عاد الطبيب إلى الفتاة وفي أثناء معانيتها فتح الباب ،  فمد يده ودون أن ينظر قال :
"الحقنة "
ولكنه سمع صراخ أمها التي هوت إلى ابنتها تحاول احتضانها بعفوية :
"ابنتي "
 فمنعها الطبيب ، وهدئ من روعها ، وفي الأثناء قام الزوج ، يحاول الاعتداء على أم زوجته بالضرب ، فأمسك به المحقق ، ذهلت المرأة وبفزع قالت :
 "ما به؟ أجن ؟" .
لم يجبها أحد ، فقد كان هَم المحقق بتهدئة الزوج ، وهَم الطبيب بالزوجة الملقاة على الأرض ، و أم الزوجة بين الذهول من تصرف الزوج ، والخوف على ابنتها ، لم تعرف ما عليها فعله ، إلى أن دخلت الممرضة ، وأعطت الطبيب الحقنة التي حقن بها ذراع الزوجة ، وأشار للممرضة بالخروج ، فتبعتها أم الزوجة لتسألها .
عادت أم الزوجة لتجد الطبيب على مكتبه وابنتها متكئة على الأريكة لا تكد تفتح عينيها ، والزوج مطرقاً ، فسألت :
"ما الأمر؟ ماذا يجري؟ الممرضة لا تعرف شيئاً " .
رفع الزوج رأسه ونظر إليها وكاد أن يتكلم ، فأشار له المحقق بالسكوت فسكت ، ولكن المرأة رفعت صوتها :
" ما بكم أخبروني ؟ لماذا أراد التهجم علي ؟ " .
فقالت ابنها بصوتٍ مرتعش وعينٍ دامعة
" لأننا في مصيبة " .
فردت أمها : " أي مصيبة ؟ وما شأني أنا " .
فأسرع الزوج بالرد : "لأنك سببها" .
فأشار المحقق له ثانية أن يلتزم الصمت ، ولكن أم الزوجة غضبت :
" دعه يكمل لنرى ما الذي دفعه للتهجم علي " .
فقال المحقق :
" سيدتي دعي الأمور تهدأ وبعد ذلك ستفهمين" .
ولكنها ردت :
" ابنتي ملقاة على الأرض و زوجها يريد ضربي ، ثم أنا سبب المصيبة ، ولا تريدوني أن أعرف ؟" .
 فقال الزوج :
" تريدين أن تعرفين ؟ " .
فأجابت أم الزوجة :
"أجل" .
فنظر إليها بحقد وقال :
" لأنك يا محترمة .. "
وسكت الزوج ولم يكمل حديثه ، فقالت له "
" أكمل ما بك ؟ " .
فقال :
" أتعلمين إني وابنتك أخوة ؟ من رجلٍ واحد ؟ " .
فأجابته بسرعة و انفعال :
" اخرس يا وقح ما هذا الكلام ؟ " .
فقال الطبيب :
" انها الحقيقة " .
فقالت :
"أي حقيقة ؟ من أين أتيت بها ؟ "
فتدخل المحقق ليقول :
" تحاليل الدي ان ايه لا تخطئ " .
فأجابته بغضب :
" وأي تحليلٍ هذا ؟ لم يحلل لي أحد "
وهنا تدخل الطبيب ليقول لها :
" قد أخذنا عينات من ابنتك و زوجها لنتأكد إن كان هناك سبب وراثي للتشوه الذي أصاب طفلهما " .
 فأجابته أم الزوجة وقد اصفر وجهها وظهر الارتباط في ألفاظها  :
" على فرض ، لماذا تتهموني أنا ؟ " .
فظهر صوت بكاء ابنتها وهي تقول :
" لأني أتذكر وجودك مع الرجال في صغري ، صور تتقافز إلى مخيلتي منذ ساعة عن تلك الأيام " .
بكت الزوجة وحاولت الاقتراب من الزوج بتردد لتحتضنه ، ولكنه اقترب أسرع منها يحضنها ليشاركها الدموع ، و أما الطبيب والمحقق فلم يستغربا ، فقد كانت هيئتها وثيبها التي لا تنسب عمرها تدل على أنها امرأة غير سوية السلوك .
وأما أم الزوجة فأنزلت رأسها تفكر في خوف وحيرة ، للتخلص من هذا المأزق المحرج المرعب ، فتمالك نفسها سريعا ، ورفعت رأسها قائلة :
" لمَ تحاول أن تضع اللوم عليَّ أنا ؟ " .
فأجابها الزوج بحنق :
"ماذا تقصدين ؟ " .
شعرت بالخوف من نبرته ،فقررت تغير أسلوبها ، لتصل لما أرادت بطريقة ملتوية ، ورمت عباءة الحياء وقالت :
" أنا أعترف إني أمرأة فاسدة ، ولكني أعرف أباك جيداً ولم يلمسني وحتى لم أفكر بأي جار "
عم الصمت للحظات وبدأ الزوج يرتجف وقد أنزل رأسه ، فقام الطبيب والمحقق بالوقف أمامه ولكنه لم يشعر بهما حتى إذ هم بالقيام للنيل من أم الزوجة بعد أن شعر أنها توجه الكلام لأمه ، اصطدم بهما ، فأمسكاه يهدئان من روعه ، وقال له المحقق :
"تمالك نفسك، ما بك ، أين ذهب تحملك وصبرك ، عليك أن تهدئ حتى تواجه كل المواقف " .
رجعت أم الزوجة بعد أن هدئ الزوج ، إذ تفاجئوا بدخولها ، فلم يكونوا قد لحظوا خروجها ، كانت قد غسلت وجهها وعدلت من هيئتها ، ولم تبدوا مبالية ، فقد حاولت إظهار قوة خُلطت بصلافة وجرأة و وقاحة ، كأنها تقول ماذا سيعرفون أكثر فعلي وعلى الجميع ، وإن كان خلف ذاك المظهر قلب يرتعش خوفاً من اللحظات القادمة وما تخبئه .
بدا الوضع متوتراً جداً ، لا أحد يستطيع الحديث ، وبكاء الزوجة لم ينقطع وكذا التصاقها بالزوج ، كسرت المرأة الصمت لتسأل الطبيب :
" ألا تتمكنون من معرفة الأب ؟ " .
رمقها الكل باستحقار ، وأجبها الطبيب :
" لا بد من أخذ عينه منه أو من أحد أبناءه لنقارن النتائج " .
عاود الصمت والارتباك على الجميع ، إلا أم الزوجة التي أخذت تلوك العلكة لتخبئ توترها الذي ظهر من سرعة لوكها وصوته المقزز .
استمر صمتهم إلى أن طُرق الباب ، لتدخل منه أم الزوج بوقرها وحشمتها ، ذهل الجميع من حضورها غير المتوقع ، فقال ابنها :
" أمي ما الذي أتى بك بهذا الوقت ؟ " .
أثناء كلامه قلّبت أمه وجهها لتقول له :
" ما بكم ؟ "
فعاود سؤاله :
" ما الذي أتى بك " .
فقالت أم الزوجة :
" أنا أتصلت بها "
فرد عليها الزوج : " لماذا ، من الذي طلب منك الاتصال بها ؟ " .
فأجابته :
" إحدانا أو كلينا سبب في هذا الأمر فيجب أن تتحمل معنا " .
فزعت أم الزوج من كلمها وقالت :
" ما بكم ، أي أمرٍ تتحدثون عنه ، ولمَ زوجتك تبكي ؟ "
لم يرد ابنها عليها ، ولكنه وجه كلامه لأم الزوجة :
" هل تريدين أن نفتضح أمام الجميع ألا تخجلين ؟ " .
فأجبته بجرأة و وقاحة :
" أنا فضحت مع إنه إلى الآن احتمال 50% إني لست طرف في هذه المشكلة "  .
بدا التوتر عالياً على أم الزوج فقالت بغضب :
" ألن تخبروني ماذا يجري هنا ؟ " .
فأجبتها أم الزوجة والكل مطرق إلى الأرض :
" أسمعي حبيبتي ، فحصوا الحمض النووي للزوج فوجدوهما أخوين من أب ، وهل تصدقين إنهم يضعون اللوم علي وحدي ، مع إني لم أقم أي علاقة مع زوجك " ، سقطت أم الزوج من هول ما سمعت مغماً عليها ، قبل أن تنطق بكلمة أو حتى تفكر في ما سمعت .
أتى الطبيب و ابنها يحاولون إفاقتها ، وبعد رش الماء على وجهها أفاقت ، وبدأت البكاء وحضن ابنها الذي كان الوجوم يسطر على ملامحه ، التفتت للطبيب :
" دكتور هل هذا الكلام صحيح " .
فجابها بالإيجاب ، فواصلت بكت وأخذها ابنها وأجلسها ، وضعت كفيها على وجهها ودموعها تنساب بين أصابعها .
قرر المحقق أن يأخذ هو صدارة الكلام ، وينهي هذا الموضوع ، فوجه خطابه للجميع بنبرته الحادة القوية :
" نحن في مصيبة ، ولا مجال لدينا لرمي الكلام دون اعتبار ، و افتعال المشاجرات الجانبية ، لذلك يجب أن يكون كلام الجميع بحساب لنصل إلى نتيجة قبل أن تخرجوا من هذا المكتب ، وأرجو أن لا أضطر بتحويل الموضوع للنيابة ، أو استقدام رجال الشرطة لتهدئة الأوضاع " .
كان الهاتف قد رن وأجاب الطبيب وأغلقه ، أشار للمحقق الذي حضر عنده ، ليسر له بشيء ، فبدا التأثر على وجه المحقق وهو يرمقهم ، والكل ينظر إليه .
وقف المحقق ليقول لهم :
" أعتذر منكم على ما سأقوله ، ولكنه أمر الله ونفذ ولا راد لقضائه " ؟
ثم سكت وقد بدت علامة الحزن والانزعاج والتوتر على وجهه ، فقال الزوج :
"ما الأمر ، خيرا إن شاء الله؟ "
فأجابه المحقق والكل يرمقه :
" قد اتصلوا من حجرة الحضانة ... فقد سلم الصغير روحه لربٍ رحيم ، وارتاح مما كان سوف يلقاه في هذه الدنيا " .
صرخن النسوة الثلاث ، وسجد الزوج يشكر الله وقال في سجوده بصوتٍ مسموع :
" شكراً ربي إنك رحمته ورحمتني " .
قام الزوج وطلب منهن الهدوء ، وهو يقول لهن :
" اصمتن وكافكن صياحاً ، فالحمد لله الذي قبضه إليه ، دون أن يكبر ليعي ويفهم ، ويرى ما أراه ، ويسمع ما أسمعه ، ويدني رأسه كما أدنيه الآن ، ويشعر بما أشعر به من الألم بسببكن " .
فقالت أم الزوجة بعد أن كفت عن البكاء وهدئن أم الزوج وابنتها :
" الحمد لله الذي لا يحمد على مكروهٍ سواه ، فقضاءٌ أخف من قضاءٍ ، وأعتقد إن الموضوع انتهى بموت الصغير ولا يحتاج أن ننبش الماضي وتقليب المواجع " .
فردت عليها ابنتها بغضب ودموع :
" يا سلام ، أأنت سعيدة بموت أبني ، ونحن أنا و زوجي ، ماذا عنا "
ترددت الزوجة قليلاً ثم قالت :
" أو أخي .. ألا يحق لنا أن نعرف ما هي علاقتنا ببعض ؟ ما هو مصيرنا ما هو مستقبلنا " .

تدخل المحقق ليعيد سيطرته على الأجواء ، الموضوع لم ينتهي ، فهناك جريمة وهاذين [أشار للزوج والزوجة] مجنٍ بحقهما ، وبقائهما معناً أيضاً جريمة ، يجب أن نضع النقاط على الحروف قبل أن تفلت الأمور من أيدينا وتكبر المسألة .

فعلقة أم الزوجة :
" أيعني لن تتركونا إلا بفضيحة ، خلاص ليطلقها وينتهي الأمر " .
فأجاب المحقق :
" الفضيحة ستحدث إن لم تتضح الأمور ، وليس أمرك أن يطلقها أو لا ، فالمسألة ممكن أن تأخذ أبعاد أكبر ، إن لم نتأكد كجهة تطبق القانون عدم وقوع محاذير أخرى " .

فأجابته أم الزوجة :
" أنا قلت ما عندي أبوه لم يلمسني فأنا أعرفهم منذ زمن ، لتقل أمه ما عندها " .
غضب الزوج وقال :
" لا شأن لك بأمي فهي أطهر منكِ " .
فردت عليه :
" لا تغضب إن لم تصدقوا فأنا موافقة أن يحضر أباك و زوجي ويعمل التحليل للجميع " .
ففزعت أم الزوج وصاحت :
" لا " .
سكت الجميع ونظروا إليها ، ولكنها لم تنطق ببنت شفة ، ولكن دموع الندم قد فضحت ما تخبئ ، فقال المحقق :
" سيدتي هل هم ابنا زوجها ؟ "
فأجابت من بين بكائها :
"هذا أيضا لا ، فهو لم يلمسني أيضاً " .
فقالت أم الزوجة :
" زوجك لم يلمسني ولو مسني لقلت فقد افتضح أمري ، و أنت فزعتي من التحليل ، وتقولين إن زوجي لم يلمسك ، ماذا تقصدين ؟ " .
فقالت أم الزوج وهي مطرقة :
" لا أدري " .
فقالت أم الزوجة :
" أهو شخصٌ ثالث ؟ ".
علا بكاء أم الزوج لعله غلطة .
فقالت أم الزوجة في ذهول : " من ؟ " .
أخذ الكل بالمراقبة بصمت وتوجس ، فالآن سيكشف السر ذو الست وعشرين عاماً الذي ظهر فجأة ، وسيعرفون جوابه فجأة ، فقالت أم الزوج وهي تشعر بعيونهم التي تراقبها دون أن تنظر إليهم :
" لا أدري تحديداً " .
فطلقت أم الزوجة ضحكة ماجنة ، و انهدّ الزوج يبكي ، واطرق الطبيب ، وحوقل المحقق ، وضربت الزوجة رأسها ودخلت في نوبة بكاء بعد أن قالت :
" يا ويلي ، لن نخرج من هذا الموضوع ، من هو أبانا ؟"   
كسرت أم الزوجة هذه الحالة المتوترة ، لتدخل في حوار مع أم الزوج :
" ياه .. يبدوا إني لم أكن حالة شاذة "
" لا ليس كما تظنين "
" كيف إن لم تعرفي الفاعل على وجه التحديد يعني كم شخص ؟ "
" لا هي فترة قصيرة من حياتي ، وبعدها قررت التوبة إلى اليوم ، ولم أشك أنه قد وقع حملي ، فأذكر أني تركت هذه الأمور قبل حملي "
" قصيرة طويلة ، المهم إنها حدثت ، وأما الحمل فأنا أيضا كنت متأكدة من عدم وقوع حمل إلى اليوم ، هيا .. هيا لنضع الاحتمالات ونرى من هم المشتركين بيننا "
" لا أدري [ أخذها البكاء ] من تظنين ؟ "
" لن أذكرهم فهم كثر ، فإن كانت علاقاتك محدودة فأخبرينا بهم وسوف أحاول تذكرهم إن كان أحدهم مشتركاً بيننا "
غضب الزوج وبكى بحرقة :
" ما هذا ما هذه القذارة ، أي حوارٍ ماجنٍ قذرٍ هذا ؟ " .
كاد يغشى إلا أن المحقق أمسكه وأجلسه وهدئ من روعة .
وفي أثناء صمتهم إلا من صوت المحقق هو يواسي الزوج ، فتح باب حجرة الطبيب بشدة ، ودخل مدير المستشفى ومعه الممرضة ، و بعض أوراق وخلفهم فتاة أمرها بالانتظار خارجاً ، نظر للطبيب بغضب ، فقام الطبيب من مكانه ، فقال المدير متوجهاً للزوج والزوجة والأميين
" أعتذر يبدو إن هناك خطئٌ ما " .
ابعد الطبيب وجلس مكانه ، قلب ملف الزوجين ، ثم حدق بالطبيب :
" كيف يا دكتور تقع في مثل هذا الخطأ " .
الكل وقف ينظر إليه ، وارتبك الطبيب وهو يقول
" أي خطأ ؟ " .
نظر المدير إليهم:
" أعتذر منكم ، تحليل الحمض النووي لم يكن للزوجة بل كان لأخت الزوج " .
علت الوجوه دهشة بدأت تلين إلى ابتسامة ، فقال الطبيب بعد برهة :
" كيف ذلك سيدي ؟ " .
فقال مدير المستشفى :
" دخلت علي الممرضة لتخبرني بالخبر "
وجه خطابه الآمر للممرضة :
" أخبريهم بما أخبرتني " .
فقالت الممرضة :
" أولا أعتذر منكم على ما حصل ، فقد جاءتني قبل نصف ساعة مراجعة تطلب تحاليلها ، وبعد أن سلمتها التحاليل ، نظرت إليها عادت إلي ودار بيننا هذا الحوار :
" هذه ليست تحاليلي "
" كيف ليست تحاليلك "
" أنا حامل وهذه لمرأة حائل "
" يمكن أن يكون حملك كاذب "
فضحكت وقالت " رأيت الجنين بالسونار ، ثم إن فصيلة دمها مختلفة عن فصيلة دمي "
" أريني "
" وعندما أخذت التحليل وشاهدته وشاهدت الاسم علمت إنها أخت الزوج ، وتذكر إنها حين أتت لنأخذ منها عينة الدم ، كانت الزوجة موجودة وإني أكتب الاسم الأول فقط على أنبوب عينة الدم وأضعه على الملف ، فيبدوا إن كل منهما ذهبت عينتها مع ملف الأخرى ".
فقالت أم الزوج :
" ولكن ليست لي ابنة حبلى " .
فقال مدير المستشفى :
" هي ابنة زوجك من امرأة أخرى " .
فقالت بعصبية :
" كيف ؟ أهو متزوجٌ علي ؟ " .
فرمقها ابنها وقال :
"  متزوجٌ متزوجٌ " .
فسكتت الأم وجلست مكانها ، فسأل المدير الزوج :
" ألا تعلمون " .
 " للأسف لم نكن نعلم " .
" أتريدها أن تدخل فهي عند الباب " .
فأومأ بالإيجاب ، وقد وقف متسمراً بابتسامة مشوهة ، يحملق في الباب وعيناه جارية الدموع ، فأشار الطبيب للممرضة لإدخال الفتاة التي كانت تطالب أن تعرف ما الأمر .
دخلت الأخت :
" السلام عليكم " .
أجابها الجميع وهم ينظرون إليها ، فقالت :
" ممكن أن تفهموني ماذا يجري ؟ " .
فقال لها المدير :
" أتعلمين إن لكِ إخوة من أبيك ؟ " .
فقالت :
" أجل أعلم " .
" أتعرفينهم ؟ "
فدمعت عينها وقالت :
"للأسف لا أعرفهم "
 فقال لها المدير :
" عينة تحليل دمك اختلطت مع عينة زوجة أخيك ، وكادت تسبب مشكلة كبيرة ولكن الحمد لله ، [أشار للزوج ] هذا هو أخوك " .
نظرت إليه لم تتكلم ، فقال الزوج وهو يبتسم والدموع المتناقضة تنساب من عينيه :
" أختي ؟ أول مرة أعلم أن لي أخت ، فقدت أبناً يولد ، ورزقت بأختٍ من السماء " .
تقدم نحوها بخطواتٍ ثقيلة حذرة ، رفعت سلسلة ذهبية من جيدها علقت فيها ما شاء الله فضية ، وقالت ودموعها تسيل :
" لم أشاهد أبي منذ أن كنت في الثالثة فلا أذكره ، إلا يوم عقد قراني منذ ثلاث سنوات ، اتصلنا به فحضر ليوافق على زواجي من زوجٍ لا يعرفه ، وأهداني هذه ، و رحل " .
سالت دموع الجميع ، فقال المدير :
" إن شاء الله تتغير الأوضاع ، وتعودين إلى كنف والدك وظل أخيك"
تبسم ابتسامة شاحبة :
" كان ينكرني !! "
فقال لها المدير :
" الحمض النووي لا يكذب هذا أخوك يمد يده إليك "
فقاطعته ، قائلة :
" أعتذر "
تراجعت خطوات وخرجت ، وعند الباب سقطت ، فأسرعت إليها الممرضة والطبيب ، وأحضرا لها سريراً متنقلاً ، و أخذاها ومنع المدير الزوج من اللحاق بأخته :
" إن حالتها النفسية مضطربة وهي حامل ، دعها الآن و الأيام كفيلة بوصل أواصر الأخوة بينكما "
وقف الزوج قليلاً ودموعه لم تقف ، فبادرت أم الزوجة تكسر الصمت :
" لننسى هذا الأمر "
فنظر إليها الزوج و قال باستهزاء:
"ننسى ! " .
أنزلت رأسها ، فقالت أمه :
" أجل يا بني لننسى ، وها أنت تأكدت أنك أبن أبيك وابن حلال ، وظهرت لك أخت سبحان من سواها " .
نظر إليها بدموعه :
" أجل رزقني أخت بعد أن فقدت أم "
 ثم التفت على المدير والمحقق وقال :
" أشكركم من كل قلبي ، أشكرا لي الطبيب " .
نظر إلى زوجته وابتسم :
" أنت زوجتي .. مهما حدث وسيحدث .. أنت زوجتي .. "
تبسمت له ، فمد يده لها فمدت يدها ، أخذها وبخطوات ثابتة توجه إلى الباب وقال لأمه وأمها
" وداعاً "
واختفى وزوجته خلف الباب .

فراس خورشيد
24/5/2011